فصل: ذكر غزوة بني لحيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر غزوة بني قريظة:

لما أصبح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عاد إلى المدينة ووضع المسلمون السلاح وضرب على سعد بن معاذ قبة في المسجد ليعوده من قريب، فلما كان الظهر أتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أقد وضعت السلاح؟ قال: نعم. قال جبرائيل: ما وضعت الملائكة السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم. فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منادياً فنادى: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وقدم علياً إليهم برايته وتلاحق الناس، ونزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأتاه رجال بعد العشاء الأخيرة فصلوا العصر بها، وما عابهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وحاصر بني قريظة شهراً أو خمساً وعشرين ليلة، فما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تبعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، وهو أنصاريٌ من الأوس، نستشيره، فأرسله، فلما رأوه قام إليه الرجال وبكى النساء والصبيان، فرق لهم، فقالوا: ننزل على حكم رسول الله. فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. فال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله وقلت: والله لا أقمت بمكان عصيت الله فيه. وانطلق على وجهه حتى ارتبط في المسجد وقال: لا أبرح حتى يتوب الله علي. فتاب الله عليه وأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ثم نزلوا على حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال الأوس: يا رسول الله افعل في موالينا مثل ما فعلت في موالي الخزرج، يعني بني قينقاع، وقد تقدم ذكرهم. فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ؟ قالوا: بلى. فأتاه قومه فاحتملوه على حمار ثم أقبلوا معه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك. فلما كثروا عليه قال: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فعلم كثير منهم أنه يقتلهم، فلما انتهى سعد إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا إلى سيدكم، أو قال: خيركم، فقاموا إليه وأنزلوه وقالوا: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك فقد رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحكم فيهم إليك. فقال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه، إن الحكم فيهم إلي؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى الناحية الأخرى التي فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، وغض بصره عن رسول الله إجلالاً وقال: وعلى من ههنا العهد أيضاً؟ فقالوا: نعم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والنساء وتقسم الأموال، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
ثم استنزلوا فحبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار. ثم خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم فيها، وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد سيدهم، وكانوا ستمائة أو سبعمائة، وقيل: ما بين سبعمائة وثمانمائة، وأتي بحيي بن أخطب وهو مكتوف، فلما رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل. ثم قال للناس: إنه لا بأس بأمر الله، كتابٌ وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. فأجلس وضربت عنقه. ولم تقتل منهم إلا امرأة واحدة قتلت بحدث أحدثته، وقتلت أرفة بنت عارضة منهم.
وأسلم منهم ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد.
ثم قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أموالهم، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً، وأخرج منها الخمس، وكان أول فيء وقع فيه السهمان والخمس. واصطفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لنفسه ريحانة بنت عمرو بنخنافة من بني قريظة، فأراد أن يتزوجها فقالت: اتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. فلما انقضى أمر قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ واستجاب الله دعاءه، وكان في خيمته التي في المسد، فحضره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وقالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر عليه وأنا في حجرتي، وأما النبي، صلى الله عليه وسلم، فكان لا يبكي على أحد، كان إذا اشتد وجده أخذ بلحيته.
وكان فتح قريظة في ذي القعدة وصدر ذي الحجة، وقتل من المسلمين في الخندق ستة نفر، وفي قريظة ثلاثة نفر. ودخلت:

.سنة ست من الهجرة:

.ذكر غزوة بني لحيان:

في جمادى الأولى منها خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع، خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرةً، وأغذ السير حتى نزل على غران منازل بني لحيان، وهي بين أمج وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فلما أخطأه ما أراد منهم خرج في مائتي راكب حتى نزل بعسفان تخويفاً لأهل مكة، وأرسل فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم عاد قافلاً.
غران بفتح الغين المعجمة، وفتح الراء، وبعد الألف نون. وأمج بفتح الهمزة، والميم، وآخره جيم.

.ذكر غزوة ذي قرد:

ثم قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة فلم يقم إلا أياماً قلائل حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل غطفان على لقاح النبي، وأول من نذر بهم سلمة بن الأكوع الأسلمي؛ هكذا ذكرها أبو جعفر بعد غزوة بني لحيان عن ابن إسحاق، والرواية الصحيحة عن سلمة: أنها كانت بعد مقدمة المدينة منصرفاً من الحديبية، وبين الوقعتين تفاوت.
قال سلمة بن الأكوع: أقبلنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة بعد صلح الحديبية، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بظهره مع رباح غلامه وخرجت معه بفرس طلحة بن عبيد الله، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن ابن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع وقتل راعيه، قلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة وأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن المشركين قد أغاروا على سرحه؛ ثم استقبلت الأكمة فناديت ثلاثة أصوات: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز وأقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ** واليوم يوم الرضّع

قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا خرج إلي فارس قعدت في اصل شجرة فرميته فعقرت به، وإذا دخلوا في مضايق الجبل رميتهم بالحجارة من فوقهم، فما زلت كذلك حتى ما تركت من ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعيراً إلا جعلته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه وألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وثلاثين بردة يستخفون بها، لا يلقون شيئاً إلا جعلت عليه أمارة، أي علامة، حتى يعرفه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهوا إلى متضايق من ثنية أتاهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ممداً، فقعدوا يتضحون، فلما رآني قال: ما هذا؟ قالوا: لقينا منه البرح وقد استنفذ كلما بأيدينا، فما برحت مكاني حتى أبصرت فوارس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتخللون الشجر، أولهم الأخرم الأسدي واسمه محرز بن نضلة من أسد بن خزيمة وعلى أثره أبو قتادة وعلى أثرهما المقداد بن عمرو الكندي، فأخذت بعنان الأخرم وقلت: احذر القوم لا يقتطعوك حتى تلحق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة، فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، ولحق أبو تقادة فارس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعبد الرحمن فطعنه، فانطلقوا هاربين، قال سلمة: فوالذي كرم وجه محمد لأتبعنهم أعدو على رجلي حتى ما أرى من أصحاب محمد ولا غبارهم شيئاً.
وعدلوا قبل غروب الشمس إلى غار فيه ماء يقال له ذو قرد يشربون منه وهم عطاش، فنظروا إلي أعدو في آثارهم فحليتهم فما ذاقوا منه قطرة، قال: واشتدوا في ثنية ذي أبهر فأرشق بعضهم بسهم فيقع في نغض كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع. وإذا فرسان على الثنية فجئت بهما أقودهما إلى النبي، صلى الله عليه وسلم.
ولحقني عمي عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وصليت وشربت ثم جئت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو على الماء الذي أجليتهم عنه بذي قرد، وإذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أخذ تلك الإبل التي استنقذت من العدو وكل رمح وكل بردة، وإذا بلال قد نحر لهم ناقة من الإبل وه يشوي منها، فقلت: يا رسول الله خلني أنتخب مائة رجل فلا يبقى منه عين تطرف. فضحك وقال: إنهم ليقرون بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزوراً، فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غباراً فقالوا: أتيتم، فخرجوا هاربين.
فلما أصبحنا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع، ثم أعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سهم الفارس وسهم الراجل، ثم أردفني وراءه على العضباء. فبينما نحن نسير، وكان رجل من الأنصار لا يسبق شداً، فقال: ألا من مسابق؟ مراراً، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إيذن لي فلأسابق الرجل. قال: إن شئت. قال: فطفرت وربطت شرفاً أو شرفين فألحقه فقلت: سبقتك والله! فسبقته إلى المدينة، فلم نمكث بها إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر.
وفي هذه الغزوة نودي: يا خيل الله اركبي، ولم يكن يقال قبلها.
قرد بفتح القاف والراء.

.ذكر غزوة بني المصطلق من خزاعة:

ذكرت هذه الغزوة بعد غزوة ذي قرد، وكانت في شعبان من السنة سنة ست، وكان بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن بني المصطلق تجمعوا له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بهم خرج إليهم فلقيهم بماء لهم يقال له المريسيع بنحية قديد، فاقتتلوا، فانهزم المشركون وقتل من قتل منهم وأصيب رجل من المسلمين من بني ليث بن بكر اسمه هشام بن صبابة أخو مقيس بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت بسهم وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ، وأصاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا كثيرة فقسمها في المسلمين، وفيهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته عن نفسها، فأتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستعانته في كتابتها، فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. ففعل، وسمع الناس الخبر فقالوا: أصهار رسول الله؛ فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها.
وبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غفار يقال له جهجاه، فازدحم هو وسنان الجهني، حليف بني عوف من الخزرج، على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضبت عبد الله بن أبي بن سلول، وعند رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن. فقال: أقد فعلوها! قد كاثرونا في بلادنا! أما والله {لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} المنافقون: 8! ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم! والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم.
فسمع ذلك زيد، فمشى به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غزوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! ولكن أذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه.
فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه وقال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها. فقال: أوما بلغك ما قال عبد الله بن أبي؟ قال: وماذا؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت فإنك العزيز وهو الذليل، ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد من الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً.
وسمع عبد الله بن أبي زيداً أعلم النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله فمشى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان عبد الله في قومه شريفاً، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ، وأنزل الله: {إذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ} المنافقون: 1؛ تصديقاً لزيد، فلما نزلت أخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله بأذنه.
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ما كان من أمر أبيه النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنفوه وتوعدوه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم: كيف ترى ذلك يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: أمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
وفيها قدم مقيس بن صبابة مسلماً فيما يظهر، فقال: يا رسول الله جئت مسلماً وجئت أطلب دية أخي، وكان قتل خطأً؛ فأمر له بدية أخيه هشام بن صبابة، وقد تقدم ذكر قتله آنفاً، فأقام عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة مرتداً فقال:
شفى النفس أن قد بات في القاع مسنداً ** تضرّج ثوبيه دماء الأخادع

وكانت هموم النّفس من قبل قتله ** تلمّ فتحميني وطاء المضاجع

حللت به نذري وأدركت ثؤرتي ** وكنت إلى الأصنام أوّل راجع

مقيس بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح الياء تحتها نقطتان. وصبابة بصاد مهملة، وببائين موحدتين بينهما ألف. وأسيد بهمزة مضمومة. وحضير بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد.

.حديث الإفك:

وكان حديث الإفك في غزوة المصطلق: لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان ببعض الطريق قال أهل الإفك ما قالوا، وكان من حديثه ما روي عن عائشة، قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه فخرج سهمي فخرج بي معه، وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يتفكهن باللحم، وكنت إذا وصل بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم الذين يرحلون بعيري فيحملون الهودج وأنا فيه فيضعونه على ظهر البعير ثم يأخذون برأس البعير ويسيرون. قالت: فلما قفل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من سفره ذلك، وكان قريباً من المدينة، بات بمنزلٍ بعض الليل ثم ارتحل هو والناس، وكنت قد خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي من جزع ظفار انسل من عنقي ولا أدري، فلما رجعت التمست العقد فلم أجده، وأخذ الناس بالرحيل، فرجعت إلى المكان الذي كنت فيه ألتمسه فوجدته، وجاء القوم الذين يرحلون بعيري فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، فاحتملوه على عادتهم وانطلقوا، ورجعت إلى المعسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، فتلففت بجلبابي واضطجعت مكاني وعرفت أنهم يرجعون إلي إذا افتقدوني.
قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان تخلف عن العسكر لحاجته، فلم يبت مع الناس، فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني، وكان رآني قبل أن يضرب الحجاب، فلما رآني استرجع وقال: ما خلفك؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير وقال: اركبي. فركبت وأخذ برأس البعير مسرعاً.
فلما نزل الناس واطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتعج العسكر ولم أعلم بشيء من ذلك، ثم قدمنا المدينة فاشتكيت شكوى شديدة، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى أبوي ولا يذكران لي منه شيئاً، إلا أني أنكرت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعض لطفه، فكان إذا دخل علي وأمي تمرضني قال: كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك، فوجدت في نفسي مما رأيت من جفائه، فاستأذنته في الانتقال إلى أمي لتمرضني، فأذن لي، وانتقلت ولا أعلم بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة.
قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف نعافها ونكرهها، إنما كان النساء يخرجن كل ليلة، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب، وكانت أمها خالة أبي بكر الصديق، قالت: فوالله إنها لتمشي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطحٌ. قالت: قلت: لعمر الله بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً! قالت: أوما بلغك الخبر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي فرجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي، وقلت لأمي: تحدث الناس بما تحدثوا ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً؟ قالت: أي بنية خفضي عليك، فوالله قل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيراً وما دخل بيتاً من بيوتي إلا معي.
وكان كبر عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج، مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن زينب أختها كانت عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضارني لأختها، فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلك المقالة قال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فقال سعد بن عبادة: والله ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: كذبت ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. وتثاور الناس حتى كاد يكون بينهم شر، ونزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيراً وأما علي فقال: إن النساء لكثير وسل الخادم تصدقك، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بريرة يسألها، فقام إليها علي فضربها ضرباً شديداً وهو يقول: اصدقي رسول الله. فقالت: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب عليها إلا أنها كانت تنام عن عجينها فيأتي الداجن فيأكله.
ثم دخل علي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعندي أبواي وامرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فإن كنت قارفت سوءاً فتوبي إلى الله.
قالت: فوالله لقد تقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئاً، وانتظرت أبوي أن يجيباه، فلم يفعلا، فقلت: ألا تجيبانه؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه! وما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر تلك الأيام. فلما استعجبا بكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله لئن أقررت- والله يعلم إني منه بريئة- لتصدقني، ولئن أنكرت لا تصدقني. ثم التمست اسم يعقوب فلم أجده فقلت: ولكني أقول كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَميلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ} يوسف: 18، ولشأني كأني أصغر في نفسي أن ينزل الله في قرآناً يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رؤيا يكذب الله بها عني.
قالت: فوالله ما برح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من مجلسه حتى جاءه الوحي، فسجي بثوبه، فأما أنا فوالله ما فزعت ولا باليت، وقد عرفت أني بريئة وأن الله ظالمي، وأما أبواي فما سري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يحقق الله ما قال الناس. قالت: ثم سري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنه ليتحدر عنه مثل الجمان، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك. فقلت: بحمد الله! ثم خرج إلى الناس فخطبهم وذكر لهم ما أنزل الله في من القرآن، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم، وحلف أبو بكر لا ينفق على مسطح أبداً، فأنزل الله: {وَلا يَأتَلِ أُولُو الفَضْلِ منْكُمْ} الآية النور: 22؛ فقال أبو بكر: إني أحب أن يغفر الله لي؛ ورجع إلى مسطح نفقته. ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف فضربه، ثم قال:
تلقّ ذباب السّيف عنّي فإنّني ** غلامٌ إذا هوجيت لست بشاعر

فوثب ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه وانطلق به إلى الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ فقال: ضرب حسان وما أراه إلا قتله. فقال عبد الله: هل علم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشيء مما صنعت؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، فذكر ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال صفوان: هجاني يا رسول الله وآذاني فضربته. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحسان: أحسن يا حسان. قال: هي لك يا رسول الله، فأعطاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عوضاً منها بيرحاء، وهي قصربني حديلة، بالحاء المهملة؛ وأعطاه شيرين، أمة قبطية، وهي أخت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، فولدت له ابنه عبد الرحمن، وكان صفوان حصوراً لا يأتي النساء، ثم قتل بعد ذلك شهيداً.
مسطح بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وبالطاء والحاء المهملتين.

.ذكر عمرة الحديبية:

في هذه السنة خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معتمراً في ذي القعدة لا يريد حرباً ومع جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة، وقيل: ثلاثمائة، وساق الهدي معه سبعين بدنه ليعلم الناس أنه إنما جاء زائراً للبيت. فلما بلغ عسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوىً يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً، وقد قدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم.
وقيل: إن خالداً كان مع النبي، صلى الله عليه وسلم، مسلماً، وإنه أرسله، فلقي عكرمة بن أبي جهل فهزمه؛ والأول أصح.
ولما بلغه بسر ما فعلت قريش قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
ثم خرج على غير الطريق التي هم بها وسلك ذات اليمين حتى سلك ثنية المرار على مهبط الحديبية، فبركت به ناقته، فقال الناس: خلأت. فقال: ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس: انزلوا. فقالوا: ما بالوادي ماء. فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالري حتى ضرب الناس عنه بعطن، وكان اسم الذي أخذ السهم ناجية بن عمير سائق بدن النبي، صلى الله عليه وسلم.
فبينما هم كذلك أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من تهامة، فقال: تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأتي لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي.
فانطلق بديل إلى قريش فأعلمهم ما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إن هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، دعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه وكلمه، فقال له: يا محمد جمعت أوشاب لناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أنك لا تدخلها عليهم عنوةً أبداً، وايم الله بكأني بهؤلاء قد تكشفوا عنك غداً. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أبي قحافة. فقال: أما والله لولا يد لك عندي لكافأتك بها. ثم جعل يتناول لحية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديد، فجعل يقرع يده إذا تناولها ويقول له: اكفف يدك قبل أن لا تصل إليك. فقال عروة: من هذا؟ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة. فقال: أي غدر! وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ وكان المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك وهرب، فتهايج الحيان بن ومالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة للمقتولين ثلاث عشرة ديةً وأصلح ذلك الأمر.
وطال الكلام بينهما، فقال له النبي؛ صلى الله عليه وسلم، نحو مقالته لبديل، فقال له عروة: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وجعل يرمق أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فوالله لا يتنخم النبي نخامةً إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه وجلده وإن أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً! وحدثهم ما رأى وما قال النبي، صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل من كنانة اسمه الحليس بن علقمة، وهو سيد الأحابيش: دعوني آته. فقالوا: ائته فلما رآه النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوا الهدي في وجهه فلما رأى الهدي رجع إلى قريش ولم يصل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا قوم قد رأيت ما لا يحل صده، الهدي في قلائده. فقالوا: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك. فقال: والله ما على هذا حالفناكم أن تصدوا عن البيت من جاء معظماً له، والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين البيت أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا: مه! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: افعل. فلما أشرف على النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: هذا رجل فاجر، فجعل يكلم النبي، صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فلما جاء قال النبي: سهل أمركم.
وقال ابن إسحاق: إن قريشاً إنما بعثت سهيلاً بعد رسالة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع عثمان بن عفان، قال: لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خراش بن أمية الخزاعي إلى قريش على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ عنه، فعقروا به جمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش وخلوا سبيله حتى أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمر ليرسله إلى مكة، فقال: ليس بمكة من بني عدي من يمنعني، وقد علمت قريش عداوتي لها وأخافها على نفسي فأرسل عثمان فهو أعز بها مني. فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه، فانطلق، فلقيه أبان ابن سعيد بن العاص فأجاره، فأتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي، صلى الله عليه وسلم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قد قتل، فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم.
ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة، وهي سمرة، لم يتخلف منهم أحد إلا الجد بن قيس، وكان أول من بايعه رجل من بني أسد يقال له أبو سنان. ثم أتى الخبر أن عثمان لم يقتل.
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا عامر بن لؤي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل سهيل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأطال معه الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهم الصلح، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، فقال: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو- فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعلي: امح رسول الله. فقال: لا أمحوك أبداً. فأخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلمن وليس يحسن يكتب فكتب موضع رسول الله: محمد بن عبد الله، وقال لعلي: لتبلين بمثلها- اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وأنه من أتى منهم رسول الله بغير إذن وليه رده إليهم ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله لم يردوه عليه، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وأن يرجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنهم عامة ذلك، فإذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً وسلاح الراكب السيوف في القرب.
فبينا النبي، صلى الله عليه وسلم، يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل ابن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان أصحاب النبي لا يشكون في افتح لرؤيا رآها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني! فزاد الناس شراً إلى ما بهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك فلا نغدر بهم. قال: فوثب عمر بن الخطاب يمشي مع أبي جندل ويقول له: اصبر واحتسب فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب! وأدنى قائم السيف منه رجاء أن يأخذه فيضرب به أباه، قال: فبخل الرجل بأبيه.
وشهد على الصلح جماعة من المسلمين فيهم أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وجماعة من المشركين.
فلما فرغ النبي، صلى الله عليه وسلم، من قضيته قال: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فما قام أحد حتى قال ذلك مراراً، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك، فقالت: يا نبي الله اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتحلق شعرك، ففعل، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه، حيث أمن الناس كلهم فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.
فلما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي، وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة، فكتب فيه الأزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق وبعثا فيه رجلاً من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهداً ولا يصلح الغدر في ديننا. فانطلق معهما إلى ذي الحليفة فجلسوا، وأخذ أبو بصير سيف أحدهما فقتله به وخرج المولى سريعاً إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقتل صاحبه، ثم أقبل أبو بصير فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك وأنجاني الله منهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ويل امه مسعر حرب لو كان له رجال! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج أبو بصير حتى نزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر على طريق قريش إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة ذلك فخرجوا إلى أبي بصير، منهم أبو جندل، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً، فضيقوا على قريش يعترضون العير تكون لهم، فأرسلت قريش إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وفيها نزلت سورة الفتح، وهاجر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نسوة مؤمنات فيهن أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها عمارة والوليد يطلبانها، فأنزل الله: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُن إلى الكُفّارِ} الممتحنة: 10 الآية؛ فلم يرسل امرأة مؤمنة إلى مكة، وأنزل الله: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ}؛ فطلق عمر بن الخطاب امرأتين له، إحداهما قريبة بنت أبي أمية، والثانية أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعي، وهما مشركتان، فتزوج أم كلثوم أبو جهم بن حذيفة ابن غانم.
بسر بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة، وآخره راء. بصير بالباء الموحدة المفتوحة، والصاد المهملة المكسورة، والياء الساكنة تحتها نقطتان، وآخره راء أيضاً. وأسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. وجارية بالجيم، وآخره راء أيضاً. والحليس بضم الحاء المهملة، وفتح اللام، وبعده ياء تحتها نقطتان، وآخره سين مهملة.
وفيها كانت عدة من سرايا وغزوات: منها سرية عكاشة بن محصن أربعين رجلاً إلى الغمر، فنذر بهم القوم فهربوا، فسعت الطلائع فوجدوا مائتي بعير فأخذوها إلى المدينة، وكانت في ربيع الآخر.
ومنها سرية محمد بن مسلمة، أرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عشرة فوارس في ربيع الأول إلى بني ثعلبة بن سعد، فكمن القوم له حتى نام هو وأصحابه وظهروا عليهم، فقتل أصحابه ونجا هو وحده جريحاً.
ومنها سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر في أربعين رجلاً، فهرب أهله منهم وأصابوا نعماً ورجلاً واحداً أسلم فتركه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ومنها سرية زيد بن حارثة بالجموم، فأصاب امرأة من مزينة اسمها حليمة، فدلتهم على محلة من حال بني سليم، فأصابوا نعماً وشاء وأسرى فيهم زوجها، فأطلقها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وزوجها معها.
ومنها سرية زيد أيضاً إلى العيص في جمادى الأولى، وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، واستجار بزينب بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، فأجارته. وقد تقدم ذكره في غزوة بدر.
ومنها سرية زيد أيضاً إلى الطرف في جمادى الآخرة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلاً، فهربوا منه، وأصاب من نعمهم عشرين بعيراً.
ومنها سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة.
وسببها أن رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبي قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، في هدنة الحديبية وأهدى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، غلاماً وأسلم فحسن إسلامه، وكتب له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتاباً إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، ثم ساروا إلى حرة الرجلاء.
ثم إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من اشام من عند قيصر، حتى إذا كان بأرض جذام أغار عليه الهنيد بن عوص بن الهنيد الضليعيان، وهو بطن من جذام، فأخذا كل شيء معه، فبلغ ذلك نفراً من بني الضبيب قوم رفاعة ممن كان أسلم، فنفروا إلى الهنيد وابنه، فلقوهما واقتتلوا، فظفر بنو الضبيب واستنقذوا كل شيء أخذ من دحية وردوه عليه، فخرج دحية حتى قدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبره وطلب منه دم الهنيد وابنه عوص، فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليهم زيد بن حارثة في جيش، فأغاروا بالفضافض وجمعوا ما وجدوا من مال وقتلوا الهنيد وابنه.
فلما سمع بذلك بنو الضبيب رهط رفاعة بن زيد سار بعضهم إلى زيد بن حارثة فقالوا: إنا قوم مسلمون. فقال زيد: فاقرأوا أم الكتاب، فقرأها حسان بن ملة. فقال زيد: نادوا في الجيش: إن الله حرم علينا ما أخذ من طريق القوم التي جاؤوا منها، وأراد أن يسلم إليهم سباياهم، فأخبره بعض أصحابه عنهم بما أوجب أن يحتاط، فتوقف في تسليم السبايا وقال: هم في حكم الله، ونهى الجيش أن يهبطوا واديهم.
وعاد أولئك الركب الجذاميون إلى رفاعة بن زيد وهو بكراع ربة لم يشعر بشيء من أمرهم، فقال له بعضهم: إنك لجالسٌ تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرهن كتابك الذي جئت به. فسار رفاعة والقوم معه إلى المدينة وعرض كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقالوا: لنا من كان حياً ومن قتل فهو تحت أقدامنا، يعنون تركوا الطلب به. فأجابهم إلى ذلك وأرسل معهم علي بن أبي طالب إلى زيد بن حارثة فرد على القوم مالهم حتى كانوا ينتزعون ليد المرأة تحت الرجل، وأطلق الأسارى.
ربة بالراء والباء الموحدة. والضبيب بضم الضاد المعجمة، تصغير ضب- وقيل: هو بفتح الضاد، وكسر الباء، وآخره نون- نسبة إلى ضبيبة.
ومنها سرية زيد أيضاً إلى وادي القرى في رجب.
ومنها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان، فأسلموا، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ رئيسهم، وهي أم أبي سلمة.
ومنها سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في شعبان في مائة رجل، وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلغه أن حياً من بني سعد قد تجمعوا له يريدون أن يمدوا أهل خيبر، فسار إليهم علي فأصاب عيناً لهم، فأخبره أنه سار إلى أهل خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
ومنها سرية زيد بن حارثة إلى أم فرقة في رمضان، وكانت عجوزاً كبيرة، فلقي زيد بن فزارة بوادي القرى فأصيب أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فنذر أن لا يمس ماء من جنابة حتى يغزو فزارة، فبعثه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليهم، فلقيهم بوادي القرى فأصاب منهم وقتل وأسر أم قرفة، وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، عجوز كبيرة، وبنتاً لها، فربط أم قرفة بين بعيرين فشقاها نصفين، وقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، بابنتها، وكانت لسلمة بن الأكوع، فأخذها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منه هبةً وأرسلها إلى حرب بن أبي وهب فولدت له عبد الله بن حرب.
وأما سلمة بن الأكوع فإنه جعل أمير هذه السرية أبا بكر، فروي عنه أنه قال: أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علينا أبا بكر، فغزونا ناساً من بني فزارة، فشننا عليهم الغارة صلاة الصبح، فأخذت منهم جماعة وسقتهم إلى أبي بكر وفيها امرأة من بني فزارة معها بنت لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر بنتها، فقدمت المدينة فلقيت النبي، صلى الله عليه وسلم، بالسوق فقال لي: يا أبا سلمة لله أبوك هب لي المرأة. فقلت: والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً. فسكت ثم عاد من الغد فوهبتها له، فبعث بها إلى مكة ففادى بها أسارى من المسلمين.
ومنها سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي النبي، صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل في شوال. وبعثه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عشرين فارساً.
وفيها تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلح أخت عاصم، فولدت له عاصماً، فطلقها وتزوجها بعده يزيد بن جارية فولدت له عبد الرحمن بن يزيد، فهو أخو عاصم لأمه.
جارية بالجيم وبعد الراء ياء تحتها نقطتان.
وفيها أجدب الناس جدباً شديداً فاستسقى رسول الله بالناس في رمضان.